الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

شهادة من موقع الحدث : المجزرة الكبرى في رابعة العدوية‏


028
بقلم: د. أيمن محمد صبري
نمت مساء الثلاثاء في نحو التاسعة واستيقظت في الواحدة من صباح الأربعاء الدامي.. جلست أتابع منصة رابعة على الفضائيات.. صليت الفجر وواصلت المتابعة.. في نحو الخامسة وأنا بين اليقظة والمنام سمعت المنصة على غير العادة تنادي للخروج من الخيام.. تنبهت ونظرت إلى الخبر العاجل على الشاشة فوجدت أن مدرعات الجيش وآليات إزالة الحواجز تتجه نحو رابعة.. أخذت أتابع التطورات في تحفز شديد.. لقد بدأ الهجوم الدموي على رابعة.. في نحو السادسة ظهر على الشاشة خبر مقتل عشرة شهداء وصرخت المنصة تطلب من الناس النزول من بيوتها وتطلب أصحاب السيارات للمساعدة في نقل المصابين.. عندئذ أسرعت في ارتداء ملابسي وأيقظت زوجتى التي كانت في غاية الارهاق من مسيرة الأمس ولم تنم سوى دقائق.. أخبرتها بما يحدث وشددت عليها بعدم النزول اليوم.. في طريقي نحو رابعة سرت في شارع ذاكر حسين وبعد الوفاء والأمل بقليل رأيت عددا كبيرا جدا من سيارات الأمن المركزي الضخمة المخصصة لنقل الجنود تسير في طابور.. كانت كل أرقام السيارات تبدأ بحرف ب 14 من جهة اليمين.. انحرفت بسيارتي يمينا ودخلت امتداد شارع عباس العقاد بينما واصلت تلك السيارات نحو الحي السابع.. عندما وصلت بداية شارع عباس العقاد وجدت قوات الشرطة تضع السلك الشائك وتمنع مواصلة الطريق.. درت نحو الاتجاه الآخر وأخذت أحوم حول ميدان رابعة وعند كل شارع موصل لرابعة أجد قوات الأمن المركزي تمنع الدخول.. وكنت أسمع أصوات طلقات الرصاص الحي تدوي بعنف شديد وغزارة.. وأزيز الطائرات لا ينقطع.. ودخان أسود كثيف يرتفع في السماء.. والغازات الخانقة منتشرة وفعالة حول رابعة على مسافات بعيدة.. كان بعض الفارين من الغازات يقفون على مفارق الطرق.. سألتهم عن طريق سالك إلى رابعة فدلوني على الطريق الموازي لشارع الطيران وهو ينتهي عند المدخل الرئيسي لمستشفى رابعة خلف المسجد.. كانت هناك سيارات موضوعة بعرض الطريق كحواجز.. حاول شباب التأمين منعي من الدخول بالسيارة فقلت لهم أنني أريد المشاركة في نقل الجرحى فرفعوا الحواجز وسمحوا بمروري.. وصلت بالسيارة إلى المدخل الرئيسي لمستشفى رابعة.. ولكن طلبوا مني العودة بالسيارة حيث لا مكان لها.. وهي تعيق الحركة وقالوا عندما نحتاج سيارات سنقول لك.. عدت بالسيارة وركنتها في نفس الشارع ولكن على مسافة بعيدة.. تركت السيارة عند ناصية شارع متصل بشارع الطيران وكان قرب هذه الناصية قوات ومدرعات أمن مركزي.. ولكنهم كانوا في هذا الوقت لا يهاجمون المتظاهرين بل كان هدفهم منع المتظاهرين من الالتفاف خلف القوات التي تهاجم رابعة من شارع الطيران بمنتهى العنف والشراسة.. عدت إلى رابعة ماشيا وكانت الساعة قبل السابعة بقليل.. وكان معي كمية من الكمامات أعطانيها بعض الواقفين حول المكان.. سرعان ما تلقفتها الأيدي مني.. ما أن وصلت أمام مستشفى رابعة حتى رأيت جريحا يُحتضر محمولا على نقالة إلى أحد العيادات الميدانية.. كان المكان خلية نحل والجميع في حالة غضب شديد وحماس شديد.. حاولت النفاذ إلى قلب الميدان من ممر بجوار المسجد ولكن كانت لجان التأمين تمنع ذلك.. ولما سألت عن السبب قيل لي: خوفا على سيارات البث الفضائي.. فهي في هذا الممر.. كان المشهد معركة حقيقية.. أصوات الطلقات تدوي بمنتهى العنف.. أزيز الطائرات لا ينقطع.. وكانت الطائرات تطلق الرصاص وتقنص الناس.. كان الدخان الكثيف فوق المنطقة بسبب إطارات السيارات المحترقة.. وكان ذلك الدخان الأسود يقلل تأثير الغازات الخانقة.. ورغم أن زوجتي ثورجية أكثر مني إلا أنها اتصلت بي عدة مرات تلح علي أن أرجع الآن وأعود مع المسيرات التي تستعد للتوجه نحو رابعة.. واتصل بي ابن أخي وسألني عن مكاني.. فلما قلت له أني في رابعة أخذ يصرخ طالبا مني أن أغادر فورا.. عندما مللت من مثل تلك المكالمات أغلقت الهاتف.. صرفت نظر عن دخول قلب الميدان فالمعارك كلها على المداخل.. وجدت معركة رهيبة تشتعل بجواري.. قرب مستشفى رابعة كان هناك شارع جانبي يتصل بشارع الطيران.. وكان على ناصيته مع الطيران برج تحت الإنشاء يقابل البنزينة الموجودة في شارع الطيران.. كان الشباب يحتمون بجوار هذا المبنى وكانت قوات الشرطة والجيش قد اقتحمت التحصينات المتقدمة في شارع الطيران ووصلت إلى هذه النقطة ولم تستطع تجاوزها نحو الميدان.. والغريب أن الذي صد المدرعات والقوات الخاصة والهجوم الوحشي بالرصاص الحي هو الطوب في أيدي الشباب.. وقد أشعلوا أولا الاطارات للحد من تأثير الغازات.. ولما وجدوا المدرعات والقوات تتهيب اقتحام الدخان الأسود أخذوا يغذون النيران بكل ما طالته أيديهم.. حطموا الخيام وألقوا عروق الخشب على النيران.. وكذلك الحصر والأواني البلاستيكية والسجاد وفروع الأشجار وأي شيء يشتعل بدخان أسود.. وقفت معهم ورميت بعض الحجارة.. ولكن أصابني نوع من الإحباط وأدركت كم تقدم بي السن.. حيث كانت حجاراتي لا تصل لنصف المسافة التي تصل إليها أحجار الشباب.. كان الحماس شديدا جدا والإصرار هائلا.. كان رمي الحجارة متواصلا طوال الوقت سواء كانت القوات في مرمى الحجارة أم لا.. وعندما كانت القوات تقترب كانت سحابة عنيفة من الحجارة الغاضبة تنهال عليهم مع صيحات تكبير مرعبة.. فكانت القوات والمدرعات تتراجع فيرفع رماة الحجارة السبابة إلى السماء إشارة إلى نصر الله لهم.. كان هناك من ينقل الحجارة في الأقفاص والأجولة والحصر ويوصلها إلى الرماة.. كانت الحجارة ظلط وبلاط مكسور.. وكان هناك من يغذي النيران باستمرار حفاظا على الدخان الأسود وفائدته المزدوجة.. وكان هناك من يطوف بزجاجات المياه ليسقي العطشى.. وهناك من يطوف بالخل لتبليل الكمامات للوقاية من الغازات.. وكان هناك من يطوف بالبيبسي كولا لتخفيف احتقان واحمرار العيون.. وكان هناك من يطوف بالتمر ليعطي المناضلين شيئا من الطاقة.. وإن كانوا عن ذلك ذاهلين ونادرا ما تناول أحد التمر المعروض عليه.. وقد واجه هذا المدخل القوات الرئيسية التي حاولت اقتحام الميدان وصدوا المدرعات والرصاص الحي من السادسة صباحا حتى الرابعة مساءا.. عشر ساعات كاملة أو أكثر يمنعون قوات الجيش والشرطة من اقتحام الميدان وليس لديهم سلاح سوى الحجارة والدخان الأسود.. لقد واجهوا وصدوا طائرات ومدرعات وقناصة وقوات خاصة وذخيرة حية وغازات أعصاب وتكتيكات حربية.. لقد تصدوا لكل هذا الإجرام لمدة عشر ساعات.. كل هذا الإجرام عجز عن مواجهة أبطال يرمون الأحجار.. بعد عشر ساعات من البسالة الأسطورية خارت قواهم.. وسقط أغلبهم بين قتيل وجريح.. وعندما انهارت المقاومة عند هذا المدخل ودخلت القوات قلب الميدان انهارت عندئذ باقي المداخل.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. كانت القوات أثناء الاشتباكات تذيع من وقت لآخر بيانا عبر مكبرات الصوت يعرف المتواجدين برابعة أن لديهم أمرا من النيابة بفض الاعتصام بالقوة وتطلب من النساء والأطفال وكبار السن مغادرة الميدان من منفذ شارع يوسف عباس.. لم يعبأ أحد بهذا البيان.. وكان البيان كذبة كبيرة ليقال أنهم اتبعوا الاجراءات والمعايير الدولية.. فالحقيقة أن المنفذ الآمن المزعوم كان يواجه عدوانا غاشما بالرصاص الحي والغازات الخانقة. وقفت مع هؤلاء الأبطال حتى الساعة العاشرة تقريبا حيث ألقت علينا قوات الأمن وابلا من قنابل الغاز المتطورة.. شعرت باختناق شديد جدا لم يخفف الخل من شدته.. تراجعت مع معظم المدافعين عن المدخل تجنبا للغاز.. وشعرت أثناء ذلك بدوار شديد وكدت أفقد الوعي.. ووجدت أصابعي ترتعش.. ليس هذا غاز عادي أبدا.. تلقانا الناس في الخلف بالخل والبيبسي وسائل أبيض طحيني لا أعرف ما هو.. يداوي الاحمرار الشديد بالعيون.. استندت على إحدى السيارات في الشارع الموازي لشارع الطيران ووجدت بعض الشباب يواصلون رمي الحجارة رغم الغاز المحيط بهم.. جلست استرد أنفاسي.. ورأيت على الإسفلت بقع من دماء غزيرة.. كان بعضهم يحيطها بالطوب حتى لا تطئها الأقدام.. وكان هناك مراسلون أجانب يصورون الاشتباك عن بعد ويتحدثون مع من يجيدون الإنجليزية.. كان البعض يحمل مكبرات الصوت وينادون بالتكبير والهتافات الحماسية.. رأيت عن يميني شاب يكتب اسمه على ساعده.. وسرعان ما إلتف حوله عدد من الرجال والكهول لنفس الغرض معللين ذلك بقول أحدهم: "عشان أهلي ما يدوخوش عليا".. كدت أفعل مثلهم ولكني تذكرت أن ساقي مبتورة وسيسهل للغاية التعرف على جثتي.. وجدت قوات الأمن تفتح جبهة أخرى وتتقدم من الشارع الموازي لشارع الطيران.. وهذا هو الشارع الذي كنت أستريح في بدايته.. وسيارتي مركونة خلف القوات المهاجمة مباشرة.. وقد حطم بلدوزر القوات المسلحة سيارات الأهالي المركونة في شارع الطيران.. وأحرقت القوات كثير من تلك السيارات.. قررت إبعاد السيارة إلى مكان آمن.. فبدون هذه السيارة أصبح قعيدا وتتعقد حياتي لدرجة هائلة.. توجهت نحو تلك القوات.. وقد بدأ إطلاق الغازات.. انحرفت يسارا في شارع جانبي تجنبا للغازات وإلتفافا خلف القوات لأصل إلى السيارة.. بدأ إطلاق الرصاص الحي فتوجه عدد من الشباب إلى الشوارع الجانبية احتماءا من الغازات والرصاص.. ولم يعد في إمكانهم العودة إلى الميدان إلا بعد تراجع القوات المهاجمة للشارع الموازي لشارع الطيران.. وكذلك لا يمكني الوصول إلى السيارة إلا بعد تراجع تلك القوات.. التي كانت تتقدم وتهاجم ثم تتراجع من حين لأخر إلى شارع الطيران.. جلست مع مجموعة من الشباب تحت شجرة.. كانوا من الصعيد وكانوا صامدين ثابتين ولكنهم تكلموا بمرارة شديدة عن عدم تناسب القوة وانتقدوا البلتاجي بمرارة لأنه لم يسمح باستخدام أي شيء سوى الحجارة.. حتى الملوتوف منعهم من استخدامه.. وكانت لجان التأمين تصادر وتحطم أي زجاجة ملوتوف يصنعها أي فرد.. وتسائلوا بحزن كيف نصد المدرعات بالحجارة؟ كانوا يردون على اتصالات أقاربهم وأصدقائهم ويقولون لهم أنهم بخير وأنهم صامدون منتصرون.. وأن القوات المهاجمة لم ولن تدخل الميدان بإذن الله.. وطالبوا أقاربهم ألا يقفوا مكتوفي الأيدي وأن يخرجوا في قراهم البعيدة بمسيرات احتجاجية حاشدة.. كان الأهالي في العمارات المجاورة متعاطفين معنا.. وقد نادوا علينا من النوافذ المواربة وألقوا إلينا زجاجات المياه والخل ومشروبات غازية باردة وبصل.. إحدى الفتيات ممن ألقى إلينا بعضا من ذلك كانت سافرة.. بل سافرة جدا.. حتى تعجب بعض الزملاء وقالوا: "آدى سكان رابعة اللي مش طايقين الاعتصام". خرجت أسرة من إحدى العمارات على وجل وركبوا السيارة وسألونا عن طريق آمن للخروج من المنطقة فأرشدناهم.. وقال أحد الحضور يكلم نفسه: أنتم قاعدين جوا بيتكم وخايفين!! جاءت إلينا تمرجية خمسينية نحيفة بملابس رثة.. أبدت تعاطفها معنا.. وقالت: أنتم قاعدين في جنب الزبالة دي ليه؟ تعالوا اقعدوا في المستشفى.. مستشفى النصر أهي قريبة. ألحت في هذا الطلب كثيرا ولم يكن حولنا زبالة تذكر.. أدركت على الفور أنها تعمل مع أمن الدولة.. كانت بعض السيارات بها مدنيين تجوب الشوارع حولنا.. ولاحظت أن نفس السيارة بنفس الأشخاص مرت أمامنا عدة مرات.. من الواضح أنهم يستطلعون المكان حول رابعة من حين لآخر ويرسلون تقارير بذلك.. وهذا شيء بديهي وإذا لم يفعلوا ذلك لكانوا غافلين حقا.. ولكن تلك العجوز كان لها دور أكبر من الاستطلاع.. تبادل الحاضرين الحديث الودي مع تلك المرأة ولم يخطر على بالهم ما أدركته على البديهة.. أخذت المرأة تتصل بزميلة لها في المستشفى وتقول لها: أنا واقفة في الشارع مع ناس بلدياتنا من الصعيد.. وبقول لهم تعالوا استريحوا في المستشفى مش راضيين.. منهم لله الظلمة". وظلت واقفة بجوارنا بلا أي مبرر منطقي. جاء أحد الشباب من جهة رابعة وطلب منا أن نتحرك قليلا نحو الناصية لنلاحظ كلا الشارعين.. وسأل ماذا ستفعلون إذا تقدمت القوات من إحدى الجهتين؟ قلنا له سنصيح مكبرين حتى تتنبهوا.. نظر الشباب لساقي الصناعية بإشفاق.. وطلبوا مني الخروج من المنطقة حتى أصل لشارع به مواصلات لأني لن أستطيع الكر والفر.. أخبرتهم أني مواصل معهم وأني لا أحتاج لمواصلات لأن سيارتي مركونة قريبا من هذا المكان.. طلبوا مني الابتعاد بسيارتي.. تعللت لهم بأنها موجودة خلف القوات المهاجمة.. وكانت كذلك فعلا.. بعد قليل جاء شخص آخر وأخبرنا أن القوات في ذلك الشارع بدأت في تدمير السيارات.. شهادة لله ابتلعت هذا الطعم بسذاجة.. اسرعت نحو مكان السيارة والقوات.. وأسرعت خلفي تلك المرأة.. وصلت إلى ناصية تطل على القوات ومكان السيارة وكان ذلك بجوار مستشفى النصر المزعوم.. وقفت مع بعض الناس نراقب القوات وما تطلقه من غازات ونيران.. قالت لي المرأة عدة مرات بإلحاح تعالى استريح في المستشفى.. فقدت صبري وصحت فيها: "يا شيخة حلى عني بقى". هدأني بعض الحاضرين وقالوا: "هي شغالة في المستشفى وعاوزة تساعدك" قلت لهم: الله أعلم شغالة فين".. ما أن دخلت المرأة المستشفى حتى خرج منها شاب غاضب متجه نحونا وهو يصيح: فين ابن ....... ده".. وفي نفس اللحظة اشتد إطلاق النيران فتراجع ذلك الشاب إلى داخل المستشفى وتراجع من معي.. عن الناصية.. وتراجعت معهم نحو مائة متر ثم جلست على الرصيف.. تزايدت شدة الغازات والرصاص والانفجارت حتى أن اثنتين من المراسلات الأجنبيات كانتا تجلسان في مدخل إحدى العمارات أصابهن رعب شديد وأخذن في الهرب.. ودلهم أحد الحضور على طريق للهروب.. كان الشارع خاليا تماما سوى من شخصين متزاملين.. ذهب أحدهما مع الأجنبيات ليساعدهن على الخروج وأراد الآخر مساعدتي أيضا على الخروج وأبدى نحوي تعاطفا كبيرا.. أبديت له عدم رغبتي في المغادرة.. ولكنه ظل ملازما لي كظلي.. يريد أن اتبعه نحو مكان آمن.. قلت له: "معي سيارة هنا وسأغادر بها حين أتمكن من الوصول إليها.. اتفضل أنت لا تعطل نفسك".. من الواضح أنهم يريدون اصطيادي بأي طريقة.. يبدو أن سني ولحيتي وإعاقتي أوحت إليهم أني لابد أحد القيادات المهمة في جماعة الإخوان. كان شابا وسيما أشقر أنيق الثياب حليق اللحية يضع بارفان غالي الثمن ويدخن سجائر أجنبية.. هيئة مثالية لضابط مباحث أو أمن دولة.. وكان يضع علامة صلاة خفيفة لزوم الشغل.. لاحظت أنه غير مسلح.. حاولت التخلص منه بكل طريقة دون جدوى.. كان يلح في مغادرة المكان لأنه خطير.. قلت له لن أغادر دون السيارة.. فقال لي سيبها وارجع خدها بالليل.. أو في أي وقت. وكلما طلبت منه ألا يعطل نفسه ويمضى لحاله.. تعلل بأنه يريد مساعدتي على الخروج.. مشيت معه قليلا لأعرف الاتجاه الذي يريد أن يسوقني نحوه ولما عرفته توجهت عكسه.. أخذ ينادي علي لأتبعه.. فقلت له لابد أن أحضر السيارة ومشيت في شارع جانبي حتى ألتف خلف القوات.. سار معي بكل إصرار.. جلست على الرصيف في منتصف الشارع قبل أن أصل للسيارة وقوات الأمن فأخذ يتصل بزميل له ويصف له المكان الذي نحن فيه.. وأحمد الله أن زميله لم يستدل على المكان.. طبعا لا يمكن ألا يسألك ضابط مباحث عن محل إقامتك.. وأجبته على نحو مضلل.. كان بيني وبين السيارة نحو عشرون مترا.. ولكن دونها طوفان من الرصاص.. قمت متوجها نحو النيران وقلت له: "السيارة في هذا الشارع تعالى معي". قال لي: "أنت رايح فين دول هيقتلوك". قلت له: لا يا راجل مش معقول يقتلوا راجل عجوز ومعوق زيي".. قال لي: "دول ما بيهمهمش حد خالص". وكما توقعت خاف أن يتبعني.. وقفت عند الناصية انتظارا لهدوء النيران وكانت السيارة أمامي مباشرة.. وعندما هدأت النيران قليلا لحق بي وسألني عن مكان السيارة.. قلت له: مش عارف.. هي في الشارع ده بس مش عارف فين بالظبط. لم أجد وسيلة للتخلص منه سوى الوقوف في الشارع مواجها للرصاص تقدمت في الشارع دون مبالاة بالرصاص.. وقف خائفا وشعرت به يتميز غيظا.. لإفلاتي منه.. مشيت في الشارع قليلا ثم جلست أمام أحد العمارات مع بعض شباب السكان الذي يتفرجون على ما يحدث.. جلست نحو ربع ساعة متنفسا الصعداء لتخلصي منه.. ولكن عندما توقفت النيران وجدته يلحق بي.. أشرت له بكلتا يدي أني خلاص جالس هنا ومش هروح لأي حتة.. وكان المكان أخطر من أن يبقى فيه سوى دقائق معدودة فحياني.. بيده وانصرف.. أدركت أنه سيرسل من يقبض علي.. كانت السيارة لا تبعد عن قوات الأمن سوى عشرة أمتار أو أكثر قليلا.. انتظرت حتى تراجعت القوات عن عرض الشارع وتوارت بجوار العمارة التي تقف أمامها سيارتي.. مشيت نحو السيارة.. وصاح على الكثيرون محذرين من الاقتراب على هذا النحو الخطير.. لم أبال.. ووصلت للسيارة وأخذتها وخرجت من محيط رابعة إلى قرب شارع عباس العقاد.. عند منتصف هذا الشارع تقريبا.. أردت العودة إلى رابعة ماشيا ولكني وجدت المسافة كبيرة جدا فعدت إلى السيارة وصليت الظهر والعصر جمع تقديم.. تناولت شيئا من الطعام وجلست أستريح قليلا وأستمع للأخبار.. فتحت الموبايل وحاولت الاتصال بزوجتي ولكني وجدت هاتفها غير متاح.. فأدركت أنها في رابعة.. اتصلت بشقيقة زوجتي وعرفت منها أنها أتت بالفعل مع مسيرة كبيرة وتمكنت من دخول رابعة وصارت محاصرة في مسجد رابعة مع كثيرين من النساء والأطفال والرجال.. حاولت النفاذ إلى رابعة ولكن كانت قوات الأمن قد طوقت الميدان من كل ناحية وكانوا يقتلون كل من ترآى لهم عن بعد قتلا مباشرا دون تردد.. كانت مقاومة الميدان تنهار.. وكانت الشوارع المحيطة برابعة مليئة بحشود من المعتصمين والواصلين مع المسيرات يحاولون بدأب العودة مرة أخرى إلى الميدان.. دلني الناس على شارع سالك إلى رابعة سرت فيه بالسيارة وسط الحشود حتى أصبح اقتراب السيارة صعبا من شدة الزحام فتركتها وأكملت سيرا.. وصلت إلى نهاية الشارع وانعطفت يسارا حتى صرت قريب جدا من المسجد ولكن كان هذا الشارع مصيدة للموت.. كان الشباب يضعون سيارة ميني باص بعرض الشارع ويحاولون الاحتماء بها ومناوشة المجرمين بالحجارة.. وكان الرد بالرصاص يحصد الشباب.. فيهرولون حاملين الجثامين والمصابين.. ثم لا يلبثون حتى يعاودون الكرة.. كان في هذا الشارع مجمع من المحلات.. جلست بجوار أحد المحلات بالقرب من ذلك الباص الدموي.. وكان بجواري سيدة كبيرة تتماسك بالكاد وترفض التراجع عن هذا المكان الخطر حتى تسترد ابنها من داخل الميدان.. اتصلت بزوجتي كثيرا دون جدوى حتى تحسنت الشبكة لبرهة.. فقلت لها ألا تخرج الآن أبدا.. لأن الرصاص يحصد الناس بلا أي تمييز.. طالتنا بعض الرصاصات من العيار الثقيل.. فتراجعنا قليلا نحو فرن تركه العمال مفتوحا وهربوا منه.. وجاء ابن السيدة المتلهفة.. كانت متماسكة ولكن عندما رأته انفجرت باكية ورحلت به وهي لا تصدق نفسها.. فرحت لها وحمدت الله على ذلك.. رأيت شابين متزاملين في نحو السادسة عشر.. كان مظهرهما لا يدل على أي توجه إسلامي.. التي-شرت والكاب والحقيبة على الظهر والسوالف المدببة.. ولكني فوجئت بأحدهما يتضرع بحرارة شديدة أن يلقى الله اليوم شهيدا.. قررت العودة للسيارة والاقتراب بها قدر المستطاع حتى يسهل نقل زوجتى وقريباتها بمجرد خروجهم.. ما أن تحركت بالسيارة حتى استنجد بي شاب: "ممكن تنقل مصاب يا شيخ"، قلت له: "أيوة طبعا". وقدرت أن خروج زوجتي من المسجد سيستغرق وقتا.. رأيت الرجل مستندا على حائط ورأسه ملفوفة بشاش مخضب بالدماء.. ركب معه ثلاثة من زملائه.. كان الرجل مصابا بطلق ناري في رأسه.. كان يمشي ويتكلم.. ولكنه كان يتقيأ كثيرا.. أسرعت به إلى مستشفى الزهراء.. لكنهم اعتذروا عن استقباله حيث لا إمكانية لديهم لعلاج حالات المخ والأعصاب.. ونصحونا بالذهاب إلى مستشفى الكهرباء.. أوصلتهم وعدت مسرعا إلى رابعة.. وجدت حشود من الناس تبتعد عن رابعة فأدركت أن المقاومة على المداخل قد انهارت.. كنا قد اقتربنا من غروب الشمس.. وكنت أسير قرب مسجد فاطمة الزهراء متجها إلى رابعة وأسير عكس اتجاه الشارع وسط حشود مرتبكة وفي مصادفة عجيبة وجدت ركاب السيارة المقابلة لي ينادون باسمي.. كان بالسيارة زوجتي وقريباتها.. تنفست الصعداء.. واستدرت للعودة.. وأثناء ذلك طلب مني المحيطون بي توصيلهم لأقرب مواصلة.. لم ينتظروا ردي بل فتحوا السيارة وركبوا.. بالطبع رحبت بهم.. كانوا أبطالا مهزومين.. سألتهم عما حدث داخل رابعة وفوجئت بأن معنوياتهم مرتفعة جدا رغم الخسائر والدماء والأهوال التي التي تعرضوا لها.. لم يكونوا منكسرين ولا مهزومين على الإطلاق.. عندماعدت للبيت علمت من زوجتي أن الشرطة بعد أن دخلت رابعة احتمى من تبقى من الناس داخل المسجد.. فحاصرت القوات المسجد وأخذوا يطلقون الرصاص وقنابل الغاز عبر نوافذ المسجد.. وكان داخل المسجد نساء وأطفال ورجال مصابون.. ثم حدث تفاوض مع من بالداخل على خروج من يرغب في الانصراف.. على أن يسيروا طابورا رافعين الأيدي مطأطئي الروؤس وفي صمت تام.. خرج طابور الأسرى وسط إطلاق نار كثيف في الهواء للرعب والإذلال.. كان الناس في طابور الأسرى غاية في الحنق.. فتم تهديدهم أن من يشتم حتى في سره سيقتل فورا.. خرجت زوجتى وهي تشعر بمهانة شديدة.. حاولت الترفيه عنها دون جدوى.. ولكن للنساء قدرة قدرة غريبة على استعادة التوازن.. فقد أصرت في اليوم التالي على المشاركة في المسيرة الذاهبة لمسجد الإيمان.. وصلت على الشهداء وأوصلتهم إلى المقابر.. تحية لكل نساء الثورة..

0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
مدونة افتكاسات http://25janaer.blogspot.com هشام حسنى2014. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

مدونة افتكاسات